يبحث
أغلق مربع البحث هذا.

هل بدأت هجرة المناخ في مصر؟

كتبت- رحمة ضياء

نقلا عن موقع “للعلم” .. رابط التقرير الأصلي المنشور بتاريخ نوفمبر 2022 هنا

دراسة ترصد حراكًا داخليًّا من مناطق بنجر السكر والحمام والزمام في الساحل الشمالي.. وتقرير دولي يتوقع تجاوز هجرة المناخ الداخلية 10 ملايين بحلول 2050

قرى كاملة هجرها أهلها بسبب السيول، وعائلات من شتى الدول ارتحلت داخليًّا وخارجيًّا بحثًا عن حياةٍ تصلح للعيش بعدما جفت الأراضي، ونفقت الحيوانات، واستحال الصيد، وتآكلت الشواطئ نتيجة تغيُّر المناخ، وملايين النازحين سنويًّا باتوا يُعرفون بـ”مهاجري المناخ”؛ إذ بلغ عدد النازحين داخليًّا بسبب المناخ 17.2 مليون شخص على مستوى العالم وفق تقديرات مركز مراقبة النزوح الداخلي، في حين تشير التوقعات إلى احتمال ارتفاع العدد إلى 143 مليون شخص بحلول عام 2050، وفق البنك الدولي.

وتتوقع تقارير دولية حدوث هجرات مستقبلية مماثلة في مصر تقدر بالملايين، في حين رصدت دراسات محلية محدودة حراكًا داخليًّا بدأ بالفعل نتيجة الجفاف وارتفاع درجات الحرارة وتذبذب هطول الأمطار، مما أضر بحِرَف الزراعة والصيد والرعي، ودفع أصحابها لمغادرة محافظاتهم بحثًا عن قوت يومهم.

وتشير تقديرات الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ إلى أنه بحلول عام 2050 من المتوقع أن يرتفع منسوب مياه البحر المتوسط بمقدار متر واحد نتيجة الاحترار العالمي، وتنتج عن ذلك خسارة ثلث الأراضي الزراعية عالية الإنتاجية في دلتا النيل، وغمر بعض المدن على طول الساحل الشمالي الغربي، مثل الإسكندرية ودمياط ورشيد وبورسعيد، وانتقال ما يتجاوز 10 ملايين شخص إلى منطقة وادي النيل المكتظة بالسكان بالفعل، وفق ما ورد في تقرير التنمية البشرية لعام 2021 الصادر عن برنامج الأمم المتحدة الإنمائي بالتعاون مع وزارة التخطيط والتنمية الاقتصادية.

هجرة العمالة

ورث أحمد كامل (51 عامًا) حرفة الزراعة عن أبيه، علاوة على 22 فدانًا يتقاسمها مع ثمانية أشقاء وأربع شقيقات، كانت ذات يوم من خيرة الأراضي في قرية علي باشا الرومي التابعة لمركز يوسف الصديق بمحافظة الفيوم على مشارف صعيد مصر، قبل أن ينضب خيرها وتجف، فيهجر الأشقاء الزراعة والديار وتتفرق بهم السبل سعيًا وراء الرزق في محافظات أخرى.

يقول كامل لـ”للعلم”: لم يكن أمامي بديل حتى أستطيع أن أنفق على زوجتي وأبنائي سوى أن أغادر، انتقلت إلى محافظة الجيزة وعملت حارسًا لأحد العقارات بعد أن كنت صاحب أرض وبيت، لم نألف بسهولة وضعنا الجديد، واحتملنا أوضاعًا صعبة، وفوق هذا كنا غرباء، بعيدين عن الأهل والجيران.

هاجر أشقاء كامل وأبناؤهم بدورهم إلى القاهرة الكبرى؛ إذ يتوزعون حاليًّا بين مناطق التجمع والمقطم ومدينة السادس من أكتوبر، ويعملون في مجالات حراسة العقارات وأعمال البناء والخرسانة.

ورصدت دراسة “التكلفة البيئية والاقتصادية للتصحر في أراضي الفيوم أن محافظة الفيوم خسرت أكثر من 12 ألف فدان زراعي في الفترة ما بين عامي 1987 و2018، مما ترتب عليه خسائر تقدر بـ146 مليون جنيه.

تغير المناخ

يقول عادل معتمد -أستاذ الجغرافيا البيئية بجامعة أسيوط، ومؤلف الدراسة- لـ”للعلم”: إن محافظة الفيوم أحد أهم مصادر الهجرة الداخلية للسكان؛ بسبب تدهور حالة الأراضي الزراعية وانخفاض إنتاجيتها نتيجة عدة عوامل، منها التغير في قيَم درجات الحرارة التي يرتبط بارتفاعها زيادة واضحة فى معدلات التبخر تُفقد التربة الكثير من رطوبتها وترفع من مستويات عملية التملُّح، إضافةً إلى طبيعة المناخ الجاف بالمنطقة، وعوامل أخرى غير مرتبطة بتغير المناخ أسهمت في تفاقم الوضع، منها سوء إدارة مياه الري.

وأشار “معتمد” إلى أن “هناك تأثيرات مماثلة تؤدي إلى عمليات حراك داخلي لسكان الأراضي المعتمدة على المياه الجوفية مثل محافظة الوادي الجديد، وكذلك سكان أراضي الساحل الشمالي الغربي التابعة لمحافظة مرسى مطروح؛ بسبب عدم انتظام التساقط المطري، مما يؤدي إلى فشل العمليات الزراعية المعتمدة اعتمادًا أساسيًّا على مياه الأمطار”.

وهذا ما يعاني منه المزارعون والعاملون في حرف الرعي في محافظة مرسى مطروح منذ سنوات بسبب الجفاف وقلة الأمطار، ما أدى إلى اختفاء بعض أنواع النباتات الرعوية المستساغة لدى الحيوانات، وفق مصطفى موسى، رئيس مجلس إدارة جمعية الرامس لتنمية المجتمع المحلي للمراعي والبيئة في محافظة مطروح.

ويضيف موسى لـ”للعلم”: إن “أصحاب القطعان عجزوا عن سد احتياجاتها مع تدهور المراعي نتيجة تغير المناخ بالمنطقة، علاوةً على ارتفاع سعر الأعلاف المصنَّعة؛ إذ يصل سعر الطن إلى 10 آلاف جنيه، ونتيجةً لذلك حدثت هجرة داخلية، وهناك مَن هجر المهنة بأكملها”.

وأشار إلى أن “هناك عدة مشاريع نُفذت في المنطقة بالتعاون مع الجمعية تستهدف إكثار البذور الرعوية مثل الأكاسيا والبرسيم، وعمل محميات طبيعية، وتقديم الدعم للنساء من خلال مشاريع صغيرة لتربية الطيور والماشية لتحسين معيشتهن”، مضيفًا: الحكومة تدعم والمشاريع تساعد، لكن الظروف المناخية من قلة الأمطار وهبوب العواصف والبرودة الشديدة كلها تقف ضدنا.

الأنواع الرعوية

من جهته، يقول مصطفى صبري الحكيم -أستاذ المراعي الطبيعية بمركز بحوث الصحراء، ومنسق مشروع جمع وحفظ بذور النباتات الرعوية النادرة بمحافظة مطروح- لـ”للعلم”: إن الجفاف وتذبذب سقوط الأمطار علاوةً على الرعي الجائر أسهم في تدهور أراضي المراعي الطبيعية في الساحل الشمالي الغربي واختفاء بعض الأنواع الرعوية الجيدة والعالية الاستساغة لدى الحيوانات، وهو ما أدى إلى انتقال الرعاة إلى المحافظات القريبة من الساحل مثل البحيرة وواحة سيوة، ولفت إلى أن مشروع جمع البذور (تم تنفيذه من عام 2012 حتى 2015 بتمويل من برنامج المنح الصغيرة ومرفق البيئة العالمي ومركز بحوث الصحراء، ونفذته جمعية الرامس) استهدف تحسين مناطق الرعي المتدهورة من خلال تجميع البذور وإعادة البذر والمحافظة على الأنواع الرعوية المستساغة من الاندثار، وشارك في تنفيذه مختلِف فئات المجتمع من الرجال والنساء والشباب، وهو ما ساعد على تحسين قدراتهم خاصة في أوقات الجفاف أو تذبذب سقوط الأمطار.

وأشار “الحكيم” إلى أننا بحاجة إلى إجراء دراسات متعمقة في تأثيرات تغير المناخ الاجتماعية التي تؤدي إلى هجرة بعض أنواع العمالة، خاصةً في المناطق الصحراوية.

دراسات محدودة

عدد محدود من الدراسات رصدت الهجرة الداخلية لتغير المناخ فى مصر، منها دراسة “النزوح الداخلي الناتج عن تغير المناخ في منطقتي بنجر السكر والحمام بالساحل الشمالي الغربي”، والتي نفذتها الشبكة العربية للبيئة والتنمية “رائد” بالتعاون مع المجلس النرويجي للاجئين في مصر والسودان بين عامى 2013-2015 (حصلت مُعدة التقرير على نسخة مطبوعة منها)، ورصدت الدراسة انتشار ظاهرة الجفاف وتدهور الأراضي الزراعية بقرى بنجر السكر والحمام نتيجة عدة أسباب، منها تراجُع كميات الأمطار وتذبذُبُها، مما يؤدي إلى ارتفاع معدلات الملوحة، وارتفاع درجة الحرارة، ما أدى إلى تغيُّر موعد الزراعة في حدود 15 يومًا.

وأشارت الدراسة إلى أنه نظرًا لمحدودية معرفة المزارعين بتبِعات تغيُّر المناخ وتأثيره على الزراعة استمروا في الزراعة في المواعيد القديمة نفسها، مما أدى إلى خفض إنتاجية المحاصيل بنسب تصل إلى 30% في مناطق عديدة.

وسجلت الدراسة عدة تأثيرات اجتماعية نتيجةً لذلك، منها نزوح أعداد من السكان بحثًا عن فرص مكسب أو حياة أفضل، ورغبة الأهالي في التحول من مهنة الزراعة إلى مهن أخرى مثل السائقين والبائعين.

كما أشارت الدراسة إلى تأثيرات أخرى لتغير المناخ في مصر على التجمعات السكانية، بالإضافة إلى هجرة العمالة الزراعية، وهي هجرة الصيادين نتيجة تأثر الإنتاج السمكي بسبب تغير الأنظمة الإيكولوجية في المناطق الساحلية وارتفاع حرارة مياه البحر، مع توقعات مستقبلية بهجرة سكان المناطق المنخفضة في شمال الدلتا وبعض المناطق الساحلية الأخرى المهددة بالغرق مع ارتفاع مستوى سطح البحر وزيادة معدلات نحر الشواطئ وتغلغل المياه المالحة في التربة ونقص الإنتاجية الزراعية.

توعية مجتمعية

تقول غادة أحمدين -مديرة البرامج فى شبكة “رائد”- لـ”للعلم”: إن أهم توصية خرجت بها الدراسة هي ضرورة إشراك المجتمع المحلي المتضرر من تبِعات تغيُّر المناخ في اقتراح الحلول، بما في ذلك الشباب والنساء؛ لتعزيز المرونة المجتمعية ومساعدة السكان على الصمود في مواجهة المخاطر، مما يقلل من عمليات النزوح.

وأضافت “أحمدين” أن النزوح بسبب المناخ لا يشترط أن ينتج عن كارثة كبرى مثل السيول والفيضانات، ولكن عوامل مثل الجفاف وقلة الأمطار لها تأثيرٌ قوي كذلك على الحراك الداخلي للسكان، وأشارت إلى أننا نحتاج إلى مزيد من المشاريع الهادفة لبناء قدرة المجتمعات على الصمود والمقاومة.

هجرة النساء

بدوره، يقول أحمد الدروبي -مدير الحملات في مؤسسة جرينبيس- لـ”للعلم”: إن المشكلة الأساسية فيما يتعلق بهجرة المناخ هي غياب المعلومات بشأنها؛ لأنه لم يحدث رصد وتوثيق لعمليات الهجرة الداخلية في مصر، ثم التعامل معها ومحاولة إيجاد حلول لها، ويضيف: “نحتاج إلى وجود تشبيك بين مختلف القطاعات لرصد التأثيرات التقاطعية لتغير المناخ وإتاحة دور أكبر للمجتمع المدني وإشراك الفئات الأكثر تأثرًا وتهميشًا لأنهم أكثر قدرةً على معرفة الحلول التي تناسبهم وتحسِّن أوضاعهم”.

وأشار “الدروبي” إلى أن النساء من أكثر الفئات تضررًا بهجرة المناخ، ولا بد من أن يكون هناك تشجيع لوجود منظمات مجتمع مدني تعمل على دعم القضايا النسوية المتقاطعة مع تغير المناخ، وأن يكون هناك أعمال توعية ووضع حلول وتدابير للتكيف تراعي النوع الاجتماعي.

ووفق تصريحات ميشيل باشيليت -المفوضة السامية للأمم المتحدة لحقوق الإنسان- فإن “النساء يمثلن حوالي 80% من النازحين بسبب تغير المناخ، وأن النساء النازحات أكثر تعرضًا لخطر العنف، بما في ذلك العنف الجنسي، لا سيما النازحات في ملاجئ الطوارئ أو الخيام”، مشيرةً إلى “الخطر المتزايد المتمثل في الاتجار بالبشر وزواج الأطفال والزواج المبكر والقسري الذي تتحمله النساء والفتيات المتنقلات”.

وتؤدي حالات الهجرة الداخلية في كثير من الأحيان إلى تزويج الفتيات مبكرًا وتسرُّبهن من التعليم، وفق عبد الحميد حسين (39 عامًا)، وهو مزارع سابق اضطرته الظروف المناخية إلى هجرة مهنته وبلده في محافظة المنيا والانتقال إلى القاهرة الكبرى للعمل كحارس عقار بمنطقة حدائق الأهرام في محافظة الجيزة.

يقول حسين” لـ”للعلم”: عندما انتقلنا إلى هنا كانت ظروفنا صعبة، ولم يكن لديَّ إمكانيات تسمح بأن أنفق على تعليم البنات بالإضافة إلى نفقات المعيشة، وخرجت ابنتي الكبرى من المدرسة وهي في الصف الرابع الابتدائي، والأصغر منها كانت في الصف الثالث الابتدائي، لم تسمح الظروف سوى بإرسال ابني الأصغر إلى المدرسة، وكنت أتمنى لو يتعلم أبنائي كلهم حتى يعيشوا في ظروف أفضل من التي مررت بها.

القدرة على الصمود

يوصي دليل “النزوح الناجم عن الكوارث: كيفيــة الحـد مــن الخطــر، معــالـجــة الآثــار وتعــزيـــز القـــــدرة علـــى التكيـــــف” الصادر عام 2018 عن مكتب الأمم المتحدة للحد من مخاطر الكوارث، بإتاحة المعلومات عن الجفاف والسيول وغيرها من الأضرار المترتبة على تغير المناخ للمجتمعات؛ لأن ذلك من شأنه أن يساعدها على اتخاذ قرارات لتقليل الخسائر الاقتصادية ومن ثم يعمل على تقليل النزوح الداخلي، كما أوصى بضرورة وضع أنظمة للتأهب والإنذار المبكر، وتنظيم عمليات الهجرة المرتبطة بتغير المناخ من جانب السلطات لتوفير الحماية والدعم، لا سيما للفئات الأكثر هشاشةً مثل كبار السن والنساء والأطفال، وأن عمليات الهجرة المنظمة المدروسة من شأنها أن تساعد على عودة السكان إلى مدنهم في أقرب وقت.

وهناك تجارب محلية أكدت ذلك، منها المشروع القومي لتبطين الترع، أطلقته مصر لمواجهة أزمة العجز المائي، وضمان وصول المياه بصورة أفضل إلى نهايات الترع، وينفذ في 19 محافظة، ومن المنتظر الانتهاء من التنفيذ عام 2030، وفق موقع الهيئة العامة للاستعلامات.

ويقول سالم شاهين (45 عامًا) -مزارع ورئيس مجلس إدارة الجمعية التعاونية المشتركة في مركز يوسف الصديق بالفيوم- لـ”للعلم”: إن “مشروع تبطين الترع الذي تم تنفيذه في محافظة الفيوم واتبعه المزارعون في تبطين المساقي الداخلية أسهم في وصول المياه التى لم تكن تصل إلى نهائيات الترع على مستوى المحافظة، ونتج عن ذلك عودة الكثير من أصحاب الأراضي بعدما هجروها سنوات طويلة إلى المدينة بحثًا عن مصدر رزق، وعندما تحسنت الأمور وخصوصًا مياه الري عادت الناس إلى بلدها من جديد وزرعوا أراضيهم”.

هذا ما حدث مع المزارع أحمد كامل، الذي انطلقنا في التقرير من قصته، فبعد سنوات من الشتات عاد إلى أرضه قبل عامين، ويقول لـ”للعلم”: بعد تنفيذ المشروع ووصول مياه الري إلى الأراضي تشجعت للعودة، وبذلت مجهودًا كبيرًا حتى تعود الأرض خصبة، والحمد لله زرعت موسمَي قمح والأرض عاد خيرها، لكن أشقائي وأبناءهم لا يزالون مقيمين في القاهرة الكبرى؛ إذ إن إعادة إعمار الأرض ليست سهلة، وتحتاج إلى تكاليف كبيرة، لكن إن شاء الله سنعيد زراعة الـ22 فدانًا بالكامل، وسيعود أشقائي وأبناؤهم إلى بلدنا ويجتمع شمل عائلتنا من جديد.