إعداد- خالد وربي
اعتادت سحر جاد البالغة 52 عاما، المزارعة في قرية كفر الغاب بمركز كفر سعد بمحافظة دمياط، على العمل أكثر من 12 ساعة يوميا في الحقول، حيث تعمل بالأجرة لدى أصحاب الأراضي الزراعية دون أن تملك رفاهية التغيب عن العمل حتى في أصعب الظروف المناخية، قائلة: أعمل في الحر الشديد وفي الطقس الأشد برودة، فإذا لم أخرج يوما للعمل، لن أجد ما أطعم به أربعة أبناء أعولهم بمفردي منذ انفصالي عن زوجي قبل أكثر من 15 عاما.
تمتد ساعات عمل سحر من السادسة صباحا وحتى السابعة مساء، وتزيد أحيانا في مواسم جمع القطن حتى يتسنى لها جمع كميات كبيرة من القطن تحصل في مقابلها على 120 جنيها -2.5 دولار- وأحيانا أقل، فساعات عمل أقل تعني أجرا يوميا أقل، يصل في بعض الأحيان إلى 50 جنيها -نحو 1 دولار-.
تتعرض سحر إلى الإجهاد الحراري نتيجة لارتفاع درجات الحرارة المتزايدة في السنوات الأخيرة بفعل تغير المناخ، وهو ما يجعلها عرضة للأمراض.
وتقول سحر: أصابتني العديد من الأمراض الجلدية نتيجة العمل في الحرارة الشديدة كما أصبت بالعديد من الأمراض الجلدية والصداع النصفي المستمر والزغللة في العين.. وضعف نظري حيث أعاني من مرض ضغط العين نتيجة العمل في الحر الشديد.
هيك عن الأمراض الناتجة عن الإجهاد الحراري تتعرض سحر لمخاطر كثيرة أثناء العمل، وتحكي عنها قائلة: تعرضت لكسور أكثر من مرة وأنا أعبر المسقى والقنوات المائية أثناء القفز من حقل لآخر أثناء العمل لكني أتحمل من أجل أبنائي.
آية العريف ومبادرتها لحماية المزارعات من الإجهاد الحراري
سحر هي سيدة من آلاف المزارعات اللاتي يعانين نتيجة التغيرات المناخية والعمل في ظروف مناخية صعبة في الريف المصري، وهو ما جعل آية العريف 38 عاما، رئيسة نادي سيدات الأعمال بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا الممول من الاتحاد من أجل المتوسط ومنظمة الأمم المتحدة للتنمية الصناعية اليونيدو، تفكر في إيجاد حل لهذه المشكلة، بالإضافة إلى عملها في مجال تدريب النساء على كيفية التعامل مع التغيرات المناخية بالتعاون مع هيئة الأمم المتحدة للمرأة، من خلال مبادرة أطلقتها لمنح إجازات مدفوعة للمزراعات في الأيام الأشد حرًا، بتمويل من مجلس الأطلنطي بأمريكا.
وحول هذا، أوضحت آية العريف: دائما ما كنت أتأثر باضطرار المزارعات في الريف للعمل في ظل الارتفاع الشديد للحرارة، خاصة في صعيد مصر الأشد حرًا في ظل التغيرات المناخية فهن ليس لديهن رفاهية التعطل عن العمل ولو ليوم واحد، ما يعرضهن للإجهاد الحراري الناتج عن العمل في هذا المناخ الحار، مشيرة إلى أن فكرة المبادرة تبلورت خلال مقابلتها أحمد رشدي وهو أحد العاملين في مجلس الأطلنطي بالولايات المتحدة الأمريكية Atlantic Council، وذلك خلال وجوده بأحد المؤتمرات بالقاهرة، حيث اكتشفت أن هناك مشروع يستهدف المزارعات في الريف بدولة الهند، يمنحهن أجر مقابل اليوم الذي تكون فيه درجة الحرارة شديدة ما يحول دون عملهن، بحيث يحصلن على إجازة في الأيام التي بها موجة حارة ثم يعودن للعمل بعد انتهاء تلك الموجة.
وعرضت آية العريف فكرة تطبيق تلك المبادرة على المزارعات في الريف المصري، وحظيت فكرتها بتمويل من مجلس الأطلنطي بأمريكا، على أن يبدأ تطبيق المشروع لأول مرة في مصر بداية من شهر يونيو المقبل.
ومن المنتظر تطبيق المشروع على 20 ألف سيدة تعمل بمجال الزراعة في صعيد مصر، إذ يبدأ التطبيق في 4 محافظات هي سوهاج وأسيوط وقنا والمنيا، حيث ستحصل كل سيدة على مبلغ 150 جنيها يوميا في الأيام التي تصل فيها درجات الحرارة إلى 40 درجة مئوية، من خلال إرسال المبلغ لها عبر محفظتها الإلكترونية مقابل عدم العمل في تلك الأيام لحمايتها من المناخ الحار وحتى انتهاء الموجة الحارة.
وتضيف العريف: كما سنعطي لهن فضلا عن الدعم المادي توعية بالتغيرات المناخية وكيفية الحفاظ على المياه وحمايتهن كذلك من الحرارة العالية، عبر منحهم أدوات تقيهم من الشمس والحرارة العالية مثل قفازات اليد وكذلك غطاء يوضع على رؤوسهن للحماية من الحرارة الشديدة.
المزارعات الأكثر تأثرا بتغير المناخ
وأفاد تقرير جديد صادر عن منظمة الأغذية والزراعة للأمم المتحدة الفاو، في مارس 2024، أنّ تغير المناخ يؤثر بصورة غير متكافئة على دخل النساء الريفيات، إذ ليست لديهن القدرة نفسها على الاستجابة للأحداث المناخية القصوى والتكيف معها مقارنة بالرجال.
وبالمثل يشير تقرير المناخ الجائر إلى حقيقة مفادها، أنّ النساء ربّات الأسر المعيشية في المناطق الريفية الواقعة في البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل، يعانين كل عام من خسائر مالية أكبر بكثير من نظرائهم الرجال.
ووفق التقرير تخسر الأسر التي تعيلها النساء في المتوسط نسبة 8% من دخلها بسبب الإجهاد الحراري، ونسبة 3% إضافية بسبب الفيضانات، مقارنة مع الأسر المعيشية التي يعيلها الرجال، ويتجلى ذلك من خلال انخفاض حصة الفرد بقيمة 83 دولارًا أمريكيًا بسبب الإجهاد الحراري، وبقيمة 35 دولارًا أمريكيًا بسبب الفيضانات، ما يجعل إجمالي الانخفاض يصل إلى 37 مليار دولار أمريكي و16 مليار دولار أمريكي على التوالي في جميع البلدان المنخفضة والمتوسطة الدخل.
ونظرًا إلى أوجه التباين الكبيرة الموجودة في الإنتاجية الزراعية والأجور بين النساء والرجال، تشير الدراسة إلى أنّ تغير المناخ سيوسّع هذه الفجوات على نحو كبير في السنوات المقبلة ما لم تجرِ معالجته.
توصيات بإنشاء نظم لتقييم المخاطر الصحية واستراتيجيات للتكيف
وتقول الباحثة منى عزت رئيسة مجلس أمناء مؤسسة النون لرعاية الأسرة، في تصريحات لـ القاهرة 24، أن المزارعات في مصر يتعرضن لعوامل ارتفاع درجات الحرارة الناتج عن التغيرات المناخية، ما يعرضهن للإجهاد الحراري حيث يصابون نتيجة العمل بالحقول الزراعية في ظل درجات حرارة مرتفعة بضربات الشمس وبعض الأمراض الجلدية، وكذلك يصبن بالعطش الشديد نتيجة ارتفاع درجة الحرارة ما يؤدي لتأثيرات صحية كبيرة، حيث تتصاعد معدلات إصابة العمالة الزراعية بالأمراض مع ارتفاع درجات الحرارة.
لذلك ترى منى عزت ضرورة تطبيق نظم تقييم للمخاطر الصحية ونظم الوقاية والحماية اللازمة، مشددة على أن المزارعات في مصر لهن دورًا كبيرًا في دعم الأسرة اقتصاديًا، فضلا عن مشاركتها في الإنتاج الزراعي ما يدعم النمو الاقتصادي أيضًا في مصر.
وتطالب منى عزت، وهي تعمل أيضا استشاري تمكين اقتصادي واجتماعي ونوع اجتماعي لدى العديد من المنظمات الدولية، بضرورة وضع استراتيجية للتأقلم مع التغيرات المناخية في مصر، مع رصد الآثار على الزراعة والمزارعين والمزارعات بالبلاد، وطرح حلول مستدامة لذلك.
وتشير دراسة حديثة صدرت في نوفمبر 2023 بعنوان: تحسين أوضاع النساء في قطاع الزراعة بمصر.. دور تدخلات السياسات، وهي دراسة صادرة عن مشروع حلول للسياسات البديلة وهو مشروع بحثي تابع لـ الجامعة الأمريكية بالقاهرة، إلى أن قطاع الزراعة في مصر يوظف حوالي 45% من النساء في القوى العاملة، بصفته مُساهِمًا رئيسيًا في عمالة الإناث في مصر، حيث يسود الطابع غير الرسمي في قطاع الزراعة، إذ يعتمد ما يصل إلى 94% من العمال الزراعيين على العمالة غير الرسمية.
وحسب ذات الدراسة يعد قطاع الزراعة مسؤولًا عن 32.4% من العمالة غير الرسمية للنساء، ما يجعل المزارعات عرضة للصدمات الاقتصادية والظروف المتقلبة.
وشددت الدراسة على أن الفجوة في الأجور تتسع بين الجنسين بقطاع الزراعة في مصر، فعادة تعمل النساء في وظائف موسمية، وغالبًا ما يكنّ من عائلات فقيرة، ويعملن في ظروف غير منظمة.
ويتراوح متوسط الأجر اليومي للمزارع الموسمي في مصر بين 5 إلى 8 دولار، يؤدي هذا بدوره إلى تفاقم معدل الفقر الذي يُعَدُّ مرتفعًا بالفعل في المناطق الريفية ويقدر بنسبة 32%.
من جانبها تقول فايزة عبد الجبار نقيبة فلاحين دمياط، إن التغيرات المناخية خاصة ارتفاع درجات الحرارة أكثر ما يؤرق المزارعات، حيث تتحمل المزارعة مسؤولية جمع وحصاد المحصول ورعاية الأرض للمساهمة في دعم زوجها وأسرتها، فضلا عن العاملات بالأجرة في الأراضي الزراعية واللاتي يعانين بشدة خلال العمل في تلك الظروف المناخية الصعبة.
وبحسب فايزة عبد الجبار: حاولت دخول مجلس النواب للمساهمة في دعم التشريعات الداعمة للمرأة لكني لم أوفق، ولكني سعيدة حاليا بالعمل لحل مشاكل المزارعات والمزارعين كنقيبة للفلاحين بدمياط، خاصة أن هناك بعض الأراضي بدأت تتأثر بالتغيرات المناخية ما عرضها للتصحر والبوار فضلا عن دعم العاملات الزراعيات من خلال عملي النقابي.
دعم المزارعات يعزز القدرة على الصمود في وجه تغير المناخ
وهو ما يتطلب المزيد من المبادرات والمشاريع والبرامج الهادفة لتمكين وتدريب المزارعات ودعمهن وتقليص الفجوة مع الرجال، وهو ما لن يقتصر تأثيره على حيوات النساء ولكن على المجتمع بأكمله.
وهو ما يؤكده تقرير الفاو، بعنوان: وضع المرأة في النظم الزراعية والغذائية، ويكشف أن من شأن معالجة أوجه عدم المساواة في النظم الزراعية والغذائية وتمكين المرأة أن يخفّض مستويات الجوع ويعزز الاقتصاد ويزيد القدرة على الصمود في وجه الصدمات مثل تغير المناخ وجائحة كوفيد-19.
ويُظهر التقرير أن نسبة النساء العاملات في النظم الزراعية والغذائية تبلغ 36% من إجمالي النساء العاملات حول العالم، مقابل نسبة 38% من الرجال، بيد أنّ أدوار النساء يغلب عليها التهميش ومن المرجح أن تكون ظروف عملهنّ أسوأ من ظروف عمل الرجال، حيث يكون عملهنّ غير منتظم أو غير نظامي أو بدوام جزئي أو منخفض المهارات أو كثيف اليد العاملة، ويتقاضين أجورا أقل من الرجال، إذ تتقاضى النساء العاملات بأجر في الزراعة ما يعادل 82 سنتًا أمريكيًا مقابل كل دولار أمريكي يكسبه الرجال.
وتوضح الدراسة أنّ سدّ الفجوة بين الجنسين في الإنتاجية الزراعية وفي الأجور في العمالة الزراعية، من شأنه أن يزيد الناتج المحلي الإجمالي العالمي بنحو تريليون دولار أمريكي، وأن يقلّص عدد الأشخاص الذين يعانون من انعدام الأمن الغذائي بمقدار 45 مليون شخص.
وعلى نحو مشابه، فإنّ المشاريع الهادفة إلى تمكين المرأة تدرّ منافع أكبر من تلك الرامية إلى تعميم المساواة بين الجنسين فحسب، ويوضح مؤلفو الدراسة أنه في حال استفاد نصف صغار المنتجين من التدخلات الإنمائية التي تركز على تمكين المرأة، سيؤدي ذلك إلى ارتفاع ملحوظ في المداخيل لصالح 58 مليون شخص إضافيين وإلى زيادة القدرة على الصمود لدى 235 مليون شخص آخرين وفق نفس الدراسة.
أحلام بسيطة تلك التي تمتلكها المزارعة سحر جاد، فكل ما تطمح فيه هو توافر ظروف عمل آدمية تسمح لها باستكمال رحلتها في إعالة أبنائها وتعليمهم حتى تتوافر لهم حياة أفضل من تلك التي تعيشها.
-تم نشر القصة في موقع القاهرة 24.. الرابط.
تم إعداد هذا التقرير في إطار ورشة الأدوار التي تلعبها النساء في مواجهة تغير المناخ، والتي نظمتها مبادرة مدرسة المناخ، بمنحة من برنامج مركز التوجيه للمبادرات الإعلامية الناشئة التابع لشبكة الصحفيين الدوليين.