كتابة وتصوير- فرح يوسف
على كورنيش مدينة اللاذقية قبالة مرفئها وتحديداً في حديقة “الفرسان” صباح كل سبت وثلاثاء، ستحملك بوابة الحديقة الخضراء إلى “سوق الضيعة”حيث تشعر أنك انتقلت إلى زمن آخر، تعبر إليه مظللاً بالأشجار والقرميد الأحمر.
طاولات خشبية ومفارش ملونة تحمل منتجات صنعتها أيادي نسوية من خضروات وفواكه ومنتجات زراعية وأيضا مشغولات يدوية ومنتجات عناية بالبشرة وزيوت عطرية، يحاط بها مقاعد وكراسي يسبقها فرن حجري تراثي (تنور)، وتنتهي بمقهى صحي.
وداخل إطار اللوحة حكايات وقصص تكتب تفاصيلها سيدات رفضن أن يكن مجرد رقم مضاف لإحصائيات تشير إلى أن نسبة تأثر النساء بالتغيرات المناخية وتداعياتها تزيد بمقدار قد يصل إلى 14 ضعفا من تأثر الرجال، فقررن أن يكن فاعلات ويساعدن مجتمعهن على التكيف.
الوعي مفتاح الباب
“الوعي هو الباب والبداية، أن تعي وتدرك أنك جزء من المحيط، تؤثر وتتأثر فيه، وأنك إن كنت تتأثر بشكل أكبر مما تؤثر بفعل عوامل عدة فهذا لا يعني أن تكون غير آبه أو مكترث، الوعي سيدفعك لتنتج أكثر لتبحث عن الرابط بين سلوكك والكوكب”.. تقول المربية “نهلة شعبان” السيدة الخمسينية والأم لأربعة شبان وشابات، خريجة الإرشاد النفسي والمنتجة في سوق الضيعة منذ سنوات طويلة.
وتؤكد “شعبان” أن “التربية البيئية ونشر رسالة الوعي المناخي مهمة تقع على عاتق النساء قبل الرجال في مجتمعات كمجتمعنا، تحمل النساء والفتيات فيها مسؤوليات كبرى وأعباء أكبر”. تقلب “شعبان” بعض باقات الخضروات الورقية بين أصابعها الرشيقة وتقدم نصيحة خبيرة لأحد رواد السوق من الباحثين عن عشبة لغاية طبية علاجية وتوجهه إلى طاولة مقابلة لطاولتها، وتؤكد أن “كل ما نراه هو نتاج زراعتي، يساعدني زوجي وأولادي وأسوق في بعض الأوقات لنتاج سيدات أخريات من قريتي”.
وبوجه يحمل ابتسامة خجولة تشير “شعبان” إلى سلة من البيض البلدي تتوسط طاولة العرض، “هذا البيض لجيراني، دجاجاتنا قضى عليها الطاعون في العام الماضي، لم يبق لدينا ولا حتى دجاجة واحدة، أصابت الجائحة مناطقنا الريفية كاملة، وبين تأييد ونفي رسمي وإشاعات هنا وهناك، لم يع أحد حقيقة الأمر إلا متأخرين، خسرنا أعدادا كبيرة جدا”.
ومع ضحكة قالت “للأسف خسرت عائلات كاملة مصدر البروتين الحيواني الوحيد لديها، أنا خسرت جزءً من مصادر دخلي إضافة إلى خسارة البروتين… أروج اليوم هذا البيض لمساعدة جارتي، ولأقدم إنتاجاً أوسع لرواد السوق، فكثر يقصدونني لثقتهم أن ما أقدمه هنا عضوي ونظيف وأنتجه بحب وشغف وإدراك”.
وكشفت دراسة أمريكية نشرت فى 2020 أن التغيرات المناخية والارتفاع المتوقع فى درجات الحرارة مستقبلا سيساهم فى زيادة التوسع الجغرافي لتفشي مرض الطاعون.
وفيما يفيد تقرير لمنظمة “الفاو” بأن نسبة النساء العاملات في النظم الزراعية والغذائية تشكل 36 % من إجمالي النساء العاملات حول العالم، مقابل نسبة 38 % من الرجال، يؤكد التقرير أن ظروف عمل النساء غير منصفة، حيث يكون العمل غير منتظم أو بدوام جزئي أو منخفض المهارات. وبينما تكسب النساء العاملات بأجر في الزراعة 82 سنتًا أمريكيًا مقابل كل دولار أمريكي يكسبه الرجال، تتمتعن بقدر أقلّ من حقوق الحيازة للأراضي، ووصولهن للاعتمادات والتدريب أضيق نطاقًا، حيث يتوجب على النساء وفق التقرير، العمل مع تكنولوجيا مصممة خصيصًا للرجال، لينجم عن أوجه عدم المساواة فجوة في الإنتاجية تبلغ 24 في المائة بين المزارعين والمزارعات الذين يعملون في مزارع متساوية الحجم.
“تزرع النساء مساحات صغيرة، بعضهن يزرعن أسطح المنازل للاستهلاك العائلي” تضيف “نهلة شعبان” التي تقطع قرابة 20 كم لتصل إلى السوق، وتتابع أن “أعباء مضاعفة تقع على عاتق النساء في بلد يتأثر بتغير المناخ كجزء من الكوكب” تسهب السيدة في وصف معاناتها ومثيلاتها من السيدات المنتجات”ارتفاع درجات الحرارة والجفاف، وظواهر طبيعية ومناخية متطرفة مفاجئة جعلت لزاماً علينا تعديل زراعاتنا بطرقها وأنواعها لتتكيف مع المتغيرات، بدأنا نزرع أشجاراً مثمرة استوائية لم نكن نشهد زراعتها في ريف اللاذقية، كثير منا بات يزرع الدراغون فروت مثلا، بدأ ذلك كتجارب فردية على أسطح بعض المنازل، لننتبه بعد مضي وقت قليل أنها تثمر ثماراً باتت مرغوبة في الأسواق وتنتج بكميات تسمح لزراعاتها وتسويقها، إضافة لما تشكله من ظل على أسطح المنازل فنستفيد منها في تقليل درجات الحرارة المباشرة فوق منازلنا”.
النساء أكثر تأثراً وإنتاجاً
“إن كنا نتأثر كنساء بحكم الواقع أكثر من الرجال بالتغيرات البيئية والمناخية، فمن الطبيعي أن نتمكن بدورنا أكثر من الرجال من أن نكون فاعلات وأكثر تأقلماً وتكيفاً وابتكارًا في اجتراح حلول تجعل حياتنا ووجودنا على الكوكب أكثر إبداعا وانسجاماً مع محيطنا الطبيعي، وأقل أذى وتأثراً بالعوامل السلبية المحيطة” تقول السيدة الخمسينية “سمر يوسف” وهي تنقل عيناها بين طاولات الحاضرين وتحصي الغائبين من المنتجين في السوق.
تقدم الأختان سانيا وسمر يوسف منتجات طبيعية متنوعة، وتشاركان في نشاطات الجمعية البيئية المختلفة، “حملات التشجير والتأمل الأقرب إلى قلبي” تقول “سمر” التي تقطع أكثر من 40 كم لتصل السوق، وتكمل “تزامناً مع جائحة كورونا زاد الوعي بأهمية رفع المناعة والعودة للطبيعة، واتجه كثيرون نحو المنتجات الصحية ومنتجات الزراعة العضوية وكنت أنتج دبس الخرنوب بكميات بسيطة، ومن المعروف عنه فوائده الكبيرة لرفع المناعة، وبات أكثر طلباً فزدت الإنتاج وساعدني الأصدقاء على الترويج على صعيد ضيق وبدأ بالتوسع أكثر مع انضمامي للسوق”.
وعن زراعة الخرنوب تقول “الخرنوب شجرة مظلومة ومهملة في بلادنا وتتعرض رغم فوائدها واهميتها البيئية والاقتصادية والصحية التي تكاد تعادل الزيتون بل وتسبقها، لعمليات قطع جائرة، أحاول نشر ثقافة زراعته، بتقديم البذور والشتول، وتعليم صناعة دبسه”.
ويشير تقرير الفاو إلى أن معاملة النساء على قدم المساواة في النظم الزراعية والغذائية من شأنه أن يعزز الاقتصاد العالمي بمبلغ تريليون (1) دولار أمريكي وأن يخفّض مستوى انعدام الأمن الغذائي بمقدار 45 مليون شخص.
بدورها وعلى طاولتها في منتصف السوق تعرض الأربعينية “أمل شعبان” إكسسوارات يدوية الصنع، ألعاباً ومرايا، فواصل كتب، لوحات، مرايا، حجارة، وغيرها من المنتجات الفنية يدوية الصنع والتي تعتمد في موادها الأولية على إعادة التدوير، وتشرح ذلك قائلة، “بدأت الفكرة من وعيي بخفض الاستهلاك، مع الوقت والبحث والتعلم الذاتي وجدت أبعاداً أكبر من مجرد التوفير تحملها إعدة التدوير، أستخدم بقايا الخشب، الملابس والحقائب والخيطان، حجارة متميزة من الطبيعة تتحول لتحف وهدايا بسيطة وجميلة يتبادلها الأشخاص ويقتنوها بحب ووعي بما تحمله من قيم تراكمية”.
الصيدلانية “زينة وليد”، رئيسة مجلس إدارة جمعية “سوق الضيعة” شرحت عن دور الجمعية ونشاطاتها في المحافظة على البيئة وتعزيز الوعي الصحي والبيئي وبخاصة بين النساء والأطفال. تقول “وليد” بدأ السوق نشاطه عام 2006 بهدف البحث عن زراعة بدون كيماويات، وتركز الجمعية على نشاطات صحية وبيئية ويشارك فيها حوالي 50 منتجًا أكثر من 90% منهم من النساء، بعد ترخيصها عام 2011″.
وبحسب “وليد” تنفذ الجمعية أنشطة بيئية وتوعوية تشمل “التشجير والتنظيف والتوعية، وتواجه تحديات عدة في عملها. وتتكيف مع المتغيرات وأبرزها ما ينجم عن الحرائق الواسعة التي أصابت مساحات كبرى في المنطقة، وتسعى لإعادة التشجير بالتعاون مع جهات مختلفة مراعية المعطيات المستجدة مثل استخدام أنواع شجرية مقاومة للحرائق كالبطم، مع الحفاظ على التنوع البيئي والحيوي للمنطقة”.
نساء يصنعن الواقع
وجود النساء الطاغي في الجمعية، تصفه الصيدلانية “وليد” قائلة: ” لم نبحث عن النساء، وجودهن جاء بحكم الواقع، فرضن أنفسهن على المكان، الواقع في مختلف الأماكن التي بحثنا فيها عن مزارعين ومنتجين يراعون الشروط الصحية والبيئية للزراعة والإنتاج المستدام، كانت النساء هن من تقمن بذلك، ربما لانهن كن يزرعن حيازات صغيرة، تبدأ من حدائق منازلهن وأمتار قليلة في محيطها، وتزرعنها بقصد الاستهلاك الشخصي والعائلي، فكن أكثر حرصاً من الرجال الباحثين أساسا عن الربح المادي الأكبر من الزراعة دون إدراك لآثار كثير من الممارسات الخاطئة على الصحة والبيئة واستدامة العطاء المتبادل على الكوكب”.
أزمة بيانات
ليست وحدها جمعية سوق الضيعة التي تغيب عنها البيانات، محركات البحث والمواقع الإخبارية المختصة أو المهتمة بالشأن البيئي والمناخي، تعاني من الشح وتغيب فيها المعلومات والبيانات المتعلقة بالواقع البيئي والمناخي السوري، وعن أثره على النساء وتأثرهن به، مصادر مطلعة في مديرية البيئة باللاذقية (فضلت عدم ذكر اسمها) أكدت أن العوائق المادية واللوجستية ونقص المعدات والتقنيات والآليات وغياب الميزانيات إضافة إلى هجرة الكفاءات، تشكل إلى جانب عدم تمكين المديرية بصلاحيات تنفيذية على أرض الواقع، أبرز عوائق ومشكلات المديرية التي تمنعها من أداء مهامها، إضافة لغياب الوعي العام حتى حكومياً على مستوى المسؤولين المحليين، بأهمية وأبعاد القضية البيئية والمناخية وأثرها المباشر على الإنسان على المستوى القريب والبعيد، ولا زالت تعامل كرفاهيات”.
في بلد كسوريا تشكل الزراعة ما يزيد عن 28٪ من مجمل الناتج المحلي، لا يمكن تجاهل الأرقام في ظل واقعه، حيث يؤكد تقرير للفاو أن الرجال يتمتعون بحقوق ملكية أو حيازة آمنة للأراضي الزراعية أكثر من النساء في 40 من أصل 46 من البلدان التي تقوم بالإبلاغ عن مؤشر هدف التنمية المستدامة، وتدلل التقارير إلى أن استفادة نصف صغار المنتجين من التدخلات الإنمائية التي تركز على تمكين النساء، سيؤدي إلى زيادة ملحوظة في دخل 58 مليون شخص إضافي وإلى زيادة قدرة 235 مليون شخص إضافي على الصمود.
البيئة والمناخ جزء من مسؤوليات النساء
وعن دور النساء في مواجهة التغيرات البيئية والمناخية في سوريا تقول الناشطة البيئية والمدير التنفيذي لمؤسسة “رياديو المناخ السوريون” فرح أسعد: “هو وجه جديد من أوجه التحدي الذي اعتادته السوريات، فهن قادرات على التحدي واحترفن بذل الجهود الجبارة وصولا لأهدافهن، وبالرغم من مجهوداتهن الكبيرة تعاني النساء من التشكيك بقدراتهن في إدارة المؤسسات الكبيرة والفاعلة، وهو ما عايشته من تجربتي مجتمعياً بل ورسمياً أيضاً.”
وتضيف:” إذا فصلنا النشاط البيئي عن السلوكيات البيئية سنجد أن الأم والسيدة السورية عموماً تحمل مسؤوليتها مضاعفة انطلاقاً من الواقع الأسري الذي يجعل المسؤولية الأكبر للتربية والتنشئة على عاتق النساء، إضافة لما يفرضه الواقع السوري على الشباب الذكور من الاتجاه نحو المواضيع المهنية أكثر مما يسمح لهم بالاتجاه نحو المواضيع التنموية، فنجد الشابات من الإناث هن الفاعلات والمبادرات الأكبر والأكثر عدداً ، والتجربة الواقعية تعكس ميل الفتيات والنساء لتحسين البيئة المحيطة أساساً ويفكرن باستدامة مواردهن بشكل أكبر، هو جزء من واقع ومسؤوليات مضاعفة تقع على عاتقهن”.
ويؤكد تقرير للأمم المتحدة أن البلدان التي يوجد بها عدد أكبر من النساء في البرلمان واللاتي يشاركن في إدارة الموارد الطبيعية المحلية، غالبًا ما تشهد اعتماد سياسات وطنية أكثر صرامة لتغير المناخ مما يؤدي إلى انخفاض الانبعاثات.
لتبقى بذلك سيدات وفتيات جمعية “سوق الضيعة” مثالاً حياً وفاعلاً على نساء سوريات قررن ألا يكتفين بالمشاهدة واستقبال المتغيرات، بل يغرسن جذور العمل ليكن مثالاً حياً يعبر بالتجربة والخبرة والوعي والمعرفة، من حاضر يتأثرن به، نحو مستقبل يأملن أن يكون دورهن فاعل في جعله أكثر إشراقاً لأولادهن وأحفادهن، وكل ما يحيط بهن كجزء من هذا الكوكب، وكجزء من رسالة العطاء المستمر للنساء السوريات.
-الصورة الرئيسية للمربية نهلة شعبان خلال عملها في سوق الضيعة – تصوير/ فرح يوسف
-تم إعداد هذا التقرير في إطار ورشة “الأدوار التي تلعبها النساء في مواجهة تغير المناخ”، والتي نظمتها مبادرة مدرسة المناخ، بمنحة من برنامج مركز التوجيه للمبادرات الإعلامية الناشئة التابع لشبكة الصحفيين الدوليين.